ملتقى الأمة الواحدة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى إسلامي علمي ثقافي يسعى لوحدة المسلمين تحت راية التوحيد والنهوض بالأمة ورفعتها والتمكين لها في الأرض


    استعلاء الايمان

    أبو العباس
    أبو العباس


    المساهمات : 7
    تاريخ التسجيل : 22/01/2011

    استعلاء الايمان Empty استعلاء الايمان

    مُساهمة  أبو العباس السبت يناير 22, 2011 4:12 pm

    {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 6].
    أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال... ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة، بكل ملابساتها الكثيرة.
    إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء.
    إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء، وكل وضع، وكل قيمة، وكل أحد، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان.
    الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان، وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان، وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان.
    الاستعلاء... مع ضعف القوة، وقلة العدد، وفقر المال، كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء.
    الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية، ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان.
    وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم.
    * * *
    والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة، ولا نخوة دافعة، ولا حماسة فائرة، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود، ألحق الباقي وراء منطق القوة، وتصور البيئة، واصطلاح المجتمع، وتعارف الناس، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت.
    إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل... على من ليس يحتمي منه بركن ركين، وعلى من يواجهه بلا سند متين... وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار، والاستمداد من مصدر أعلى من مصدرها وأكبر وأقوى.
    والذي يقف في وجه المجتمع، ومنطقه السائد، وعرفه العام، وقيمه واعتباراته، وأفكاره وتصوراته، وانحرافاته ونزواته... يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس، وأثبت من الأرض، وأكرم من الحياة.
    والله لا يترك المؤمن وحيدا يواجه الضغط، وينوء به الثقل، ويهده الوهن والحزن، ومن ثم يجيء هذا التوجيه: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].
    يجيء هذا التوجيه، ليواجه الوهن كما يواجه الحزن، هما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام... يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات، والاستعلاء الذي ينظر من عل إلى القوى الطاغية، والقيم السائدة، والتصورات الشائعة، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات، والجماهير المتجمعة على الضلال.
    إن المؤمن هو الأعلى... الأعلى سندا ومصدرا... فما تكون الأرض كلها؟ وما يكون الناس؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس؟ وهو من الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير؟
    وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود... فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى، وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديما وحديثا، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة، وما اعتفسته المذاهب المادية الكالحة... حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط، وما من شك ان الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك [15].
    وهو الأعلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص، فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بالله، بصفاته كما جاء بها الإسلام، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغير، هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصورا للقيم أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم، ولا يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد، بل في الأمة الواحدة، بل في النفس الواحدة من حين إلى حين.
    وهو الأعلى ضميرا وشعورا، وخلقا وسلوكا... فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى، والعمل الصالح والخلافة الراشدة، فضلا على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة، ألجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعا، ويطمئن إليه ضمير المؤمن، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب.
    وهو الأعلى شريعة ونظاما، وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديما وحديثا، ويقيسه إلى شريعته ونظامه، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل، وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال.
    * * *
    وهكذا كان المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء، والقوى المتنفجة، والاعتبارات التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية... والجاهلية ليست فترة من الزمان، إنما هي حالة من الحالات تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام، في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء...
    وهكذا وقف المغيرة ابن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور:
    عن أبي عثمان النهدي قال: "لما جاء المغيرة إلى القنطرة، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئا من شارتهم تقوية لتهاونهم، فأقبل المغيرة ابن شعبة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة - والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة - لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها غلوة، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه [16]، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا، إلا أن يكون محاربا لصاحبه؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، فلا تصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني، أليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول".
    كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية:
    " أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولا إلى رستم، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير [17]، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
    وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا، ويستيقن أنها فترة وتمضي، وإن للإيمان كرة لا مفر منها، وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسا، أن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد، وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة، وغالبه يغادرها إلى النار، وشتان شتان، وهو يسمع نداء ربه الكريم: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد، لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار} [آل عمران: 196 - 198].
    وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون، وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز، وفي رحمة كذلك وعطف، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه.
    ويضج الباطل ويصخب، ويرفع صوته وينفش ريشه، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم، وفجر كالح لئيم... وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش، وإلى الجموع المخدوعة، فلا يهن ولا يحزن، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه، وثباته على المنهج الذي يتبعه، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين.
    ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة، ويمضي مع نزواته الخليعة، ويلصق بالوحل والطين، حاسبا أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود، وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال، ولا يبقى إلا المشروع الآسن، وإلا الوحل والطين... وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا يهن ولا يحزن، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر، وينغمس في الحمأة، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين.
    ويقف المؤمن قابضا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين، وعن الفضيلة، وعن القيم العليا، وعن الاهتمامات النبيلة، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل... ويقف الآخرون هازئين بوقفته، ساخرين من تصوراته، ضاحكين من قيمه... فما يهن المؤمن وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضيء، في الطريق اللاحب الطويل... نوح عليه السلام...
    {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} [هود: 38].
    وهو يرى نهاية الموكب الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون، هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون}؟ [المطففين: 29 - 36].
    وقديما قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا} [مريم: 73].
    أي الفريقين؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله؟ أي الفريقين؟ النضر بن الحارث، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، وأبو سفيان بن حرب؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر، وهم يجتمعون في بيت متواضع كدار الأرقم، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة، والمجد والجاه والسلطان؟!
    إنه منطق الأرض، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان، وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء، لا قربى من حاكم، ولا اعتزاز بسلطان، ولا هتاف بلذة، ولا دغدغة لغريزة، وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد... ليقبل عليها من يقبل، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والابهة، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزنا حين تخف في ميزان الله.
    إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه... انه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق، إنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل... انه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود... فأنى يجد في نفسه وهنا أو يجد في قلبه حزنا، وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود؟
    إنه على الحق... فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وليكن للضلال سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، ولتكن معه جموعه وجماهيره... ان هذا لا يغير من الحق شيئا، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولن يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال...
    {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} [آل عمران: 8 - 9].
    من معالم فى الطريق
    للاستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 09, 2024 5:23 pm