كتاب
تبصير الأنام
بكفر مردة الحكام
كتبه الشيخ أبو أيمن
تبصير الأنام
بكفر مردة الحكام
كتبه الشيخ أبو أيمن
مقدمـة
الحمد للَّه وكفى، وصلاة اللَّه على نبي الهدى المصطفى، محمد بن عبد اللَّه، وعلى آله وسلم..
وبعد..
سبب تأليف الرسالة
فقد أوقفني بعض الطلاب النابهين علي ورقة بتوقيع "السلفيين" ! تحت عنوان "تحذير الأنام من فتنة تكفير الحكام"، فوجدتها في جملتها صدىً لشبهات متكررة في دورياتهم، سبق وأن بين أهل العلم ما فيها من زيغ وتلبيس، غير أنه ألح عليّ بالرد عليها، ولو بنحو حجمها، على الرغم من كون صدورها من قِبل هؤلاء قد مر عليه عام ويزيد، حيث وزعت بين يدي مقدم الحلبي الثاني إلى ديارنا، وقد كنت أصدرتُ بعدها رسالة بعنوان "إسعاف الأُمة المكلومة من جنايات الحلبي المسمومة"، وهي لا تخرج عن ذات الموضوع، ويبدو -واللَّه أعلم- أنهم قد استأنفوا نشر ورقتهم من جديد؛ بسبب إرهاصات تنبئ بقدوم الحلبي للمرة الثالثة لديارنا، عقب عيد الأضحى من هذا العام -كما بلغنا- إذا ما شاء اللَّه، فرأيت من البد إجابة الأخ المذكور، بقريب مما طلب، وفي رؤوس أقلام! خصوصاً وأن كثيراً من طلاب الحق لم يقف على ما كتب في رد هذه الشبهات، في غير ما كتاب من كتب أصحاب الفضيلة، وأخص بالذكر منها: كتاب "الحكم بغير ما أنزل اللَّه" لعبد الرحمن المحمود، وكتاب "شذرات الماس من كتاب دفع الالتباس عن أثر ابن عباس" لأبي اليمان الربعي، وهما من أهم الكتب في هذه المسألة حسب رأيي؛ فلا بد أذن من مطوية صغيرة تصل إلى من لم يقف على الكتب المشار إليها وغيرها إن شاء اللَّه؛ عسى أن ينفع اللَّه بها من شاء من عباده..
ملاحظات تاريخية حول شبه القوم
ولا أنسى أن أُسجل هنا للتاريخ ملاحظة رأيتها في القوم -أعني القائمين على كتابة هذه الشبه أو نشرها، وأعرف بعضهم- وهي أنهم كثيراً ما يحيدون في نشراتهم هذه عن رد الحجج التي هَدمت من قبل شبهاتهم هذه، فيرددون القديم ثانية، وبعد كساده في سوق الحجة والبرهان، وقد وقف القوم على كثير من الإلزامات التي لا مفك عنها -إن شاء اللَّه- إلاّ بالإذعان للحق لمن كان ينشده ، ودونك -مثلاً- ما كتبناه في رسالتنا المشار إليها آنفاً:
-ومن ذلك: مسألة كون مفهومهم لأثر ابن عباس ليس له أثر في واقعنا المعاصر، حيث أثبتنا في الرسالة المذكورة بما لا يدع مجالاً لمتلاعب أن أرباب القوانين الوضعية هؤلاء لا يسعفهم الأثر المذكور بحال من الأحوال، حتى ولو صح من جهة النقل، ثم من جهة كونه حجة، وله حكم الرفع! ثم من جهة فهم هؤلاء له ، وما التشبث بالأثر في واقع اليوم إلاّ كمن عينه في الفيل ويطعن في ظله!، فما سر الإلحاح وتلمس الأعذار لهؤلاء المبتدعة، الجهمية، الخوارج، المرجئة الغلاة، ثم العلمانيين الملحدين الطغاة، الدعاة على أبواب جهنم بما لا يصح عذراً، وعلام تسويد الورقات، أو نشرها مرة بعد مرة، بتكرار ذكر الأثر..، فكان ماذا بعد الذي حججناهم به؟..
-ومن ذلك تعمد التشويش بإقحام مسألة العذر بالجهل أو الإكراه بضابطه كعذر من كون كفر الحكام ليس كفراً أكبر، وبعضهم لربما يحسب -جهلاً- أن الكفر الأكبر يصير -حقيقةً- كفراً دون كفر في حق المعين إن كان جاهلاً، ولم تقم عليه الحجة، وهذا جهل بعقيدة "الإيمان"، وحقيقته عند أهل السنة، فالكفر الأكبر أكبر، ومن كان له عذر شرعي فليس آثماً أصلاً، ولا تلحق به صفة الكفر الأصغر، كما الأكبر على وجه التعيين، فليس هذا أصل المسألة، فالرجاء عدم التشويش على طلاب الحق، وعدم الحياد عن موضوعنا -وهو كون كفر صاحب القوانين الوضعية من قبيل الكفر الأكبر- بإقحام مسألة العذر بالجهل، وإنما يكون الحديث فيه لاحقاً، وبعد مرحلة مناقشة جنس الكفر المعاصر نفسه.
-ومن شبههم التي يكثرون من ترديدها أيضاً اشتراط نسبة الحكم للَّه كشرط في تكفير المشرع، فلا يزال القوم يرددون مثل شبههم هذه في مساجلاتهم كما خلقت أول مرة، رغم هدمنا لها من قبل، وما زالوا ينشرون أوراقاً تحمل الشبه والاستدلالات القديمة، دون مواكبة أو رد لما استجد من رد عليها! ولسان حالهم: "أُذن الطرشان!، ولسنا المعنيين بالرد"!.. غير أني -وللإنصاف- رأيتهم في هذه النشرة قد حاولوا تخصيص آية المائدة بدليل من الوحي، وأظنهم لجؤوا إلى ذلك حينما ألحينا عليهم بطلب الاستدلال من الوحي في مسائل العقيدة -كهذه- كمخصص للآية يؤيد فهمهم للأثر، بدلاً من الاقتصار على الآثار بمفردها ، خصوصاً ما حامت حوله شكوك التضعيف منها.
ومع تخصيصهم الجديد (القديم!) هذا أقول: إن هذا الحديث الذي ذكروه كمخصص للآية، إنما هو عليهم -إن شاء اللَّه- وليس لهم كما سنرى، ولكني أشجعهم على هذا المسلك السلفي في البحث من خلال نصوص الوحي لما يؤيدون به مذهبهم، خصوصاً كنحو مسألة هي عندي من أعظم ما تعم به البلوى بين الناس قاطبة! وأخطرها؛ وذلك أن "الحاكمية" و"التسليم" صنوان مترادفان، وهذا مما لا يعقله هؤلاء، ولم يسبر غواره كثير من الناس بعد.
مفهوم الحاكمية وكونها من صميم التوحيد
وإنما كانت هذه القضية من أخطر القضايا -إن لم تكن أخطرها على الإطلاق-؛ لأن اللَّه خلق الناس، بل الكون كله لغاية، هي التسليم له، وهي العبادة ذاتها، وللفائدة والبيان في توكيد كونها كذلك، وشرحها لمن لم يفهم، وحتى يكون على بصيرة من دينه أقول الآتى:
من أعظم ما يلتبس على هؤلاء فهمه هو خلطهم بين مسألة التحكيم ومسألة التطبيق، فينتج من ذلك تعييبهم لنا التركيز في مسألة تشريع القوانين الوضعية ونحوها، أكثر من تعليمنا الأمة -مثلاً- تطبيق السنن، واجتناب المحرمات، باعتبار أن الدعوة لهذه الأخيرة ينبغي أن يكون داخلاً في مسألة تحكيم شريعة اللَّه سبحانه، ولا فرق بين الحاكم المحكًّم للقوانين الوضعية، وبين شارب الخمر، من الرعية، ومسبل إزاره -مثلاً- من هذه الناحية!.. فأقول:
إن تفريقنا بين القضيتين، إنما نتج من تفصيلنا وتفسيرنا لكل من القضيتين، بخلاف فهمهم الذي يغلب عليه الإجمال كثيراً في مباحث هذه المسألة كما سنرى، فمقصدنا بالأمر الأول: هو مبدأ رد النزاع، سواء كان في مسائل العقيدة، أو غيرها من أُمور الشريعة العملية، وهو برمته -حينئذ- مسألة عقدية، ومقصدنا بالأمر الثاني: امتثال الأمر في الخارج، والذي يكون بعد الرضا والقبول بحكمه..؛ وعليه، فإن الاحتكام في جميع مسائل الدين العلمية، والعملية شرط في صحة الإيمان، ومن لم تكن مرجعيته الوحي، سواء في العقيدة أو قضايا الشريعة الأُخرى، -قلّت أو كثرت- فليس بمسلم، وغير محكم للَّه تعالى في الجزئية التي لم تكن مرجعيته فيها الكتاب والسنة. أما قضية اتباع السنن، أو تطبيق الأحكام، فما كان منها من مسائل العقيدة في نفسه فيدخل في أحكام التكفير بحسبه، وما كان منها في آحاد الأمور المصطلح عليها باسم "الأحكام الفرعية"، فلا يوصف صاحبها بعدم تحكيمه الشريعة في نفسه، إذا ما ارتكب ذنباً -على الصحيح- مادامت مرجعيته فيها هي الكتاب والسنة، وهو -حينئذ- محكِّم للَّه في كل شرائع الإسلام، حتى فيما عصى فيه!، ومن أطلق من أهل العلم على المعاصي مسمى "الحكم بغير ما أنزل اللَّه"، فإنه أنما قصد الاختيار للمعصية، وذلك على استعماله اللغوي، -وحكمها حينئذ بحسبها- أو كونها من شعب الكفر، وبينها وبين مصطلح الكفر الأصغر فرق؛ وإلاّ لأخذت كل معصية -صغرت أو كبرت- حكم الكفر دون كفر حقيقة( )، وليس اسماً فقط!.
وعليه أقول رداً علي أصحاب هذا المنهج: إن الحاكمية التي ندعو إليها هي قبول كون الشرع هو الحَكَم في كل شأن، وليس كما يفهم هؤلاء -على اضطراب فيهم- أن معناها تنفيذ، أو تطبيق آحاد الأوامر في الخارج، أو ليس كما يفهمونه عنا، ويحاولون إلزامنا به من مجرد العمل السياسي شهوةً في الحكم، أو القول بمطابقة قولنا لقول الرافضة الأنجاس في مسألة "الإمامة"، وقد يستدلون على هذا الفهم بنقولات عن بعض الخلفيين السياسيين، المحسوبين على أهل "الحاكمية"!، ثم يعممون الأمر -كما هي طريقتهم- ويقحمون بعد ذلك المعنى المحدد الذي نقصده نحن بهذا المصطلح من باب الصيد في الماء العكر، واللعب بالألفاظ المشابهة؛ لصرف الناس عن شرك الحكام في جانب الحكم، تحت ستار أن منهج الأنبياء يزهد في التملك، والدعوة السياسية.
عاملكم اللَّه بما تستحقون أيها الظالمون..، إن "الحاكمية" بالمعنى الذي نقصده لهو فرع أصيل في شهادة التوحيد للَّه، وفي الخضوع له، والتسليم لأمره الشرعي، ولا فرق -حينئذ- بين من تمرد على اللَّه بارتكاب هذه الجريمة، وبين من ارتكب جريمة دعاء غير اللَّه، أو عبد قبراً، وقد كان من منهج الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه تجريد التوحيد من شوائب هذا النوع من الشرك في أوضح صوره، حيث واجهوا فيه حكام عصورهم، وغيرهم من المترببين من الناس بالتحليل والتحريم، أو بحياشتهم الناس بعيداً عن ربهم، والاستفراد بهم اعتباداً واستعباداً، أمراً ونهياً، أو بادعائهم الربوبية صراحة.. كل ذلك مما نحن فيه، والقرآن مليء بذكر هذا الأصل وتقديمه، بل هو مرادف لمعنى "الإسلام" بمعنى "الاستسلام" كما ذكرنا، فننازع فيه الملوك والحكام إلي آخر رمق بإذن اللَّه؛ لأنهم أبين وأعظم من أشرك من الناس بهذا النوع من الشرك في العالم، وأخطر من حاد عن توحيد الأنبياء بخصوصه، كيف.. وقد حملوا عليه الأُمة غصباً، وربوا أبناءها عليه جبراً؛ حتى كانوا لذلك أعظم الدعاة على أبواب جهنم!.
كما إننا ننازع فيها عامة الناس كذلك، ونقول إن مخالف "الحاكمية" بهذا المعني الذي نركز عليه يكفر في أي من فروع الدين كلها، ولا نخص بذلك الحاكم وحده، فمن اتخذ لنفسه مرجعية في أيٍّ من فروع الشريعة غير الوحي، كالعقل -مثلاً- أو الشيخ، أو غير ذلك، ولم يرض ابتداءً بالاحتكام للشريعة عند النزاع فيما عصى أو هفا، فقد اتخذ لنفسه إلهاً من دون اللَّه، ويزيد ضلالاً وتمرداً إذا حمل على ذلك غيره من عبيد اللَّه تعالى الذين اصطفاهم اللَّه لنفسه، كما هو حال هؤلاء المردة؛ فكفرهم فوق كفر، وليس دون كفر كما بينا في غير هذا الموضع. ومن هنا كانت غيرتنا على جناب التوحيد، وثأرنا لما استلب من حق سيدنا، وولي نعمتنا سبحانه، وليس طلباً للتملك، ولا طمعاً في الرياسة، بل حماية لهذا الجناب، وإقامة لعدل مستلب لو كنتم تعقلون.
هذه مسألة مهمة، أقحمتها هنا لأني رأيت إشارات من كلامهم في مقدمة ورقتهم هذه، وفي خاتمتها تشير إلي خلط عندهم، وكنت من قبل أبحث عن مناسبة لشرحها، وقد وجدت هذه المناسبة مواتية رغم أن المقام لا يسمح بالإسهاب فيها، ولكني أري في ذكرها -ولو باختصار- الخير الكثير، والذي سنرى ثماره قريباً بإذن اللَّه تعالى.
شبهات القوم وردها
والآن نقف على بعض شبهات القوم في المنشور المذكور، وردها برؤوس أقلام إن شاء اللَّه، وسأركز أكثر على شبهتين كبيرتين، هما الأُولي، والثانية؛ ومن خلال ذلك ستحل كثير من الإشكالات، يغني عن تتبع بنيات الطريق، التي يشوشون بها على مريدي الحق!..
الشبهة الأُولى: خطأ في النقل والفهم
أولاً- نقلهم عن الآجري أنه قال: ((ومما يتبع الحرورية من المتشابه قوله تعالي: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ()).
قلت: قال الآجري في كتاب "الشريعة": ((حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا المثنى بن أحمد، قال: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: )وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ( قال: "أما المتشابهات فهن آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرءوهن، من أجل ذلك يضل من ضل ممن ادعى هذه الكلمة، كل فرقة يقرءون آيات من القرآن، ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى، ومما تتبع الحرورية من المتشابه قول اللَّه تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(، ويقرءون معها: )ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون؛ فيخرجون فيفعلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية")) .
قلت: أصل الكلام -إذن- روايةٌ لسعيد بن جبير ، وفي إسنادها مقال كما ترى..
ثم ليس الكلام على ما فهموه؛ إذ من المعلوم أنه ليس من منهج أهل السنة ترك الاستدلال بآية استدل بها قوم على وجه خطأ إذا ما تحقق مناطها الصحيح، فالمشبهة مثلاً يستدلون على إثبات صفات اللَّه تعالى على نحو ما عند البشر بنفس أدلة أهل السنة، فلو أن المعطلة -مثلاً- أنكروا على أهل السنة استدلالهم على إثبات صفة من صفات اللَّه تعالى بآية ما؛ بحجة أنها مما يستدل بها المشبهة في مناط خاطئ، هل يحل لأهل السنة ترك الاستدلال بالآية في مناطها الصحيح.. كلا إذن، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى استدلال، وقد لحقت جنس هذه التهمة علماء السلفية الشرعية من قبل المرجئة، والجهمية، والرافضة، والخرافيين منذ زمان أحمد بن حنبل، وحتى الأمس القريب، أيام "إخوان التوحيد" في نجد، بل وإلى اليوم، في كثير من المسائل، والاستدلالات، ولو لا خشية الإطالة لنقلت بعضها من فتاوى النجديين، ومن كتب التاريخ، وفتاوى ابن تيمبة، وكتب أهل البدع، وغيرها، وأنما المهم هو إثبات المناط الصحيح للآية، وبيان الفرق بين الفهمين فيها. فهناك فرق بين استدلالنا بالآية، وبين استدلال الخوارج، والمناط الذي أنزلوا فيه الآية، بيانه في الآتي:
الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسألة تكفير الحكام
إعلم أن الفرق بيننا -نحن أهل الوسط، وأهل التفصيل- وبين الخوارج في مسألة تكفير الحكام، هو ((أن الخوارج لما كفروا الحكام قديماً استدلوا بكلمة حق -وهي قولهم: "لا حكم إلاّ للَّه" ، مع قوله تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(- ولكنهم أرادوا بها باطلاً، وهو التكفير لمن لا يستحق الكفر من عصاة الأُمراء، ممن لم ينازع اللَّه في حاكميته على الناس، فأبقوا الحكم المذكور، وهو -التكفير- على ظاهره، وصرفوه إلى غير مناطه، وهؤلاء الذين أفتوا في حكام عصرنا بالكفر الأصغر أوّلو الكفر المذكور في غير مناطه -وهو مزاحمة اللَّه في الحكم بمعناه الأول، أو التحلل من الدين بالتزام غيره من الشرائع- والحق أن يبقى الكفر على ظاهره في مناطه، وأن يؤول في غير مناطه، وهذا فيصل الافتراق بين الخوارج، وأهل السنة، والمرجئة)) .
مدلول "الحكم" بين الخالق والمخلوق
ولبيان ذلك لمن لم يفهم:
إعلم أن الحُكمَ حُكمان، لا بد من بيانهما؛ لوضع الأًُمور في نصابها الصحيح، وذلك على حد قول ابن القيم في نونيته:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا
إطلاق والإجمال دون بيان
الأذهان والآراء كل زمان
وسترى أخي أن ما سنبينه في هذا التفصيل هنا -عملاً بوصية ابن القيم- هو سر المسألة برمتها، وبه ستعلم لِمَ يفرق أهل السنة بين وقائع الأعيان، وبين التشريع في الحكم؟؛ وما تخليط من لم يتبين له الحق فيها إلاّ بعدم معرفته بهذا التفصيل، فأرعني سمعك جيداً، وهات قلبك.
يقول أبو اليمان: ((أما كلمة "الحكم" فيلزمنا هنا باختصار معنيان مهمان من معانيها؛ صار الناس بسبب الخلط بينهما في المسألة على طرفي نقيض، ووسط.. فألحق بعضهم المعنى الأول بالثاني فأفرطوا، وعكس آخرون ففرطوا، وبقي الوسط على التفصيل الآتى:
المعنى الأول- لمدلول كلمة الحكم: "عمل اللَّه، وخاصيته"، وهو إصدار الأوامر الكلية التشريعية، التي يرجع إليها القضاة للفصل في القضايا، ويرجع إليها العباد في امتثال الأوامر. ويدخل في هذا المعنى تعريف الحكم عند الأصوليين، خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين.
ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة، منها: قوله تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ)، وقوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّه أَبْتَغِي حَكَمًا)، وقوله تعالى: (وَاللَّه يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).. وغير ذلك من الآيات.
المعنى الثاني- (عمل القضاة)، وهو الفصل في الوقائع والقضايا الخاصة بحادثة ماثلة، ببيان ما تستحقه من حكم.
ويشهد لهذا المعنى آيات كذلك، منها: قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ(، وقوله تعالى: )وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)، إلى غير ذلك من الآيات.
فالحكم في المعنى الأول لا يحل لأحد أن يمارسه أو يقترب منه؛ لأنه من أخص خصائص الأُلوهية، وأعظم لوازم الربوبية؛ ولذا انفرد اللَّه تعالى من دون العالمين بفعله، فهو الذي يحدث للعباد أحكاماً وتشريعات؛ ليذلهم إليه ويعبدهم بها، ثم يصلح بها حالهم، وليس لأحد من خلقه ذلك.
والحكم في المعنى الثاني أباح اللَّه للعباد ممارسته والانشغال به، وأيضاً ليس على إطلاقة، وإنما شريطة أن يكون مستمداً من حكمه، ومستقىً من تشريعه جل وعلا.
ولنضرب لكل نوع من الحكم مثلاً لتقريب فهم المسألة:
فحد السرقة مثلاً، عمل اللَّه بخصوصه، وحكمه فيه هو إصدار تشريع (قانون) بقطع يد السارق بشرطه، أما مهمة القاضي في شأن السارق المعين أن يقضي بقطع يد هذا المعين، وليس له في التشريع نصيب، فعمل اللَّه يرجع إلى الحكم نفسه تشريعاً، أما عمل العبد فيرجع إلى الأعيان تنفيذا، وهذا واضح، وبه يتبين أن النوع الأول من الحكم -وهو حكم اللَّه- غير النوع الثاني الذي هو فعل العباد، والمخالفة في النوع الأول تكون بممارسة خاصية اللَّه بإصدار أحكام كلية، يدين الناس بالاحتكام إليها في حياتهم، والمخالفة في النوع الثاني تكون بعدم تنفيذ أمر اللَّه في معين عصياناً..
فالأول يكون عمله مضاداً -حينئذ- لقوله تعالى: )إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ(، أما الثاني فعمله يضاد الأمر المقتضي للوجوب في قوله تعالى -مثلاً-: (فَاجْلِدُوْا)، (فَاقْطَعُوْا)، هذا هو الفرق بين الحكمين: حكم الخالق، وحكم المخلوق)) أهـ.
قلت: والأسطر القادمة فيها تفصيل، يبين ذكر الحالات التي تتناولها أية المائدة على ظاهرها، والحالات المؤولة بكفر دون كفر، ضمن الإجابة على سؤالهم بخصوص أُمراء "لا يهتدون بهدي النبي e، ولا يستنون بسنته"!! في رد الشبهة الآتية:
الشبهة الثانية: تخصيص الآية بحديث حذيفة في الفتن
ثانياً- قولهم بتخصيص الآية بـ((حديث حذيفة: فهل وراء ذلك الخير من شر؟ قال نعم، قلت كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع. (أخرجه مسلم برقم )))، قالوا: ((فهذا الحاكم، أو الأمير الذي لا يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستن بسنته، هل يحكم بما أنزل اللَّه؟)).
محاولة صحيحة في منهج الاستدلال، ونتيجة خاطئة
أقول أولاً: محاولتهم تخصيص العام بنصوص من الوحي فقط -وأُكرر فقط- هو خطوة في الطريق الصحيح نشجعهم عليها كما سبق أن ذكرنا؛ وذلك لأن تخصيص العام، وتقييد المطلق من نصوص الوحي بأقوال كائن من كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم تجعله متحكماً في النص، وهذا ممتنع، فوجب الإتيان له بدليل يتوافق مع كون قوله إنما هو إخبار فقط عن مدلول النص، وليس تحكماً فيه، وهذه إلزامية لا مفك لهم منها إلاّ بالقول: إن قول الصحابي في القرآن -كله- له حكم الرفع حقيقة؛ فيكون قوله -حينئذ- هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في أصله، أو غير حقيقة فيكون معصوماً، أو يلزمهم الرجوع إلى القول بأن الصحابي إذا تكلم في التفسير إنما يتكلم عن مدلول إخبار اللَّه في الآية، وليس له من تخصيصها أو تقييدها نصيب؛ فيحتاج إلى ما يسند قوله من الوحي، وهو مطلبنا القديم. وهذه جزئية تحتاج إلى بسط ونقض لقول المخالفين ولربما نشير إلي طرف منها لاحقاً، والذي يعنينا هنا هو ما أتوا به زعموا أنه يخصص الآية، موافقة لفهمهم كلام بن عباس -ولا أقول مقصده، فلا تفرحوا- وهو استدلال خاطئ، لا دليل لهم فيه كما سنبين، وكنا نتمنى أن يذكروا غير هذا الحديث من المخصصات ؛ وذلك لأن:
حول شاهد الاستدلال
ثانياً: الرواية، أو -على الأقل- اللفظ المذكور في هذا الحديث، والتي جاء فيها: "وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" -رغم كونها في صحيح مسلم- فقد طعن فيها الدارقطني، وقواها النووي؛ لوجود الرواية الأخرى!. مع كون ما فيها من ذكر أئمة من بعده e "يهدون بغير هديه، ويستنون بغير سنته"، قد جاء ذكرها في رواية للحديث في البخاري كنحو هذا اللفظ، في مرحلة متقدمة عن مرحلة "رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"، فلم التشويش بذكر هذه الرواية مبتوتة عن أخواتها؟ فإن كنتم تعدونهم حكام العصر فسنقول بل هم أصحاب وصف "دعاة على أبواب جهنم"، وهؤلاء ليسو أصحاب مرحلة: "خير" المتقدمة في الزمان، وإن كان هؤلاء "الشياطين" هم أهلها؛ فإن المتأخرين -إذن- فوق الشياطين درجة، وإليك البيان:
ورد الحديث في البخاري ومسلم، وغيرهما بروايات أتم وأضبط، يتبين من خلالها المرحلة الزمنية التي فيها جنس كل نوع من الحكام، وفيها ما يعتبر حجة علي هؤلاء في تمامة الحديث، كما سنبين. وإن الاقتصار بموضع الشاهد، بذكر هذه الرواية مفردة لا يبين من هم هؤلاء الذين "تعرف منهم وتنكر!"، وسأذكر لك أولاً نص الرواية المتفق على صحتها مطولة، ثم يأتي لاحقاً بقية الروايات.
عن حذيفة بن اليمان قال: ((كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّه بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ"، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِى، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ"، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)) .
فهذا الحديث -كما ترى- يتكلم عن مراحل ستمر بها الأُمة في مسيرتها الدعوية السياسية! فمن هم الذين "يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"؟. وأين نصيب عصرنا نحن مما ورد في هذا الحديث؟
بغير إطالة أقول: إن خلاصة الإجابة على هذا السؤال الأول تسهل بمعرفة الإجابة على السؤال الثاني، وبه نبدأ:
أرباب القوانين دعاة على أبواب جهنم وخوارج كذلك
إن أولى من يمكن أن نلحق بهم حكام عصرنا هو أنهم داخلون في وصف "دعاة على أبواب جهنم"، من أجابهم إلي بيعة، أو دخل في طاعتهم قذفوه فيها؛ وذلك لدعوتهم لعصبية وثنية منتنة باقتسامهم دولة الخلافة التي كانت تجمع المسلمين في "جماعة المسلمين وإمامهم"، وبعدم وجود الإمام وجب اعتزال هذه الدول باعتزال بيعة حكامها؛ فإن أولي من ينبغي اعتزاله من أهل الفرقة هم أصحاب الببيعات الجاهلية، وأمراء الفرقة، الذين يكرسون فرقة الأمة، ومن دعا إلى التزام مثل هذه الدول ببيعة حكامها فأقل ما ينبغي أن يحذر الوعيد المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية)) ، فكيف إذا كانت هذه الراية ممزوجة بتمجيد الوثنية الوضعية، وغيرها من المكفرات؟. وإن من الإجحاف وضيق الأُفق عدم التنبه في هذا العصر إلى أن الدول التي تقاسمت تركة الخلافة داخلةٌ هي نفسها في مسمى الأحزاب والفرقة، فليس المقصود فقط الجماعات الدعوية المنحرفة كما لا تتسع عقول هؤلاء إلاّ لمعرفة ذلك النوع من الحزبية المنافسة!، خصوصاً وأن الحديث يتكلم عن مراحل "سياسية"! تمر بها الأُمة في مسيرتها الدعوية كما مر معنا.
وقد ذكر الألباني الحديث في صحيحته بزياداته، من المسند، وسنن أبي داود، والمعجم، وغيرها مطولاً ، وفيها ما يؤيد ما ذكرنا من دخول حكامنا تحت وصف "دعاة على أبواب جهنم"، وإليك نصها: ((... دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت : يا رسول اللَّه! صفهم لنا. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: يا رسول اللَّه! فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم، تسمع وتطيع الأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، و لو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". (وفي طريق): "فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم". (وفي أخرى): "فإن رأيت يومئذ للَّه عز وجل في الأرض خليفة فالزمه، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فإن لم تر خليفة فاهرب في الأرض، حتى يدركك الموت وأنت عاض على جذل شجرة" قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "ثم يخرج الدجال ...")).
قلت: فالدعاة على أبواب جهنم هم في العصر الذي يسبق الدجال، وهذا يؤيد أنهم في زمان سقوط الخلافة المسلمة؛ وذلك لأن الدجال يكون في زمان المهدي المنتظر، والذى يزامن نزول ابن مريم. والمهدي المنتظر سيملأ الأرض عدلاً، بعد أن ملئت جوراً، ولا يملأُ الأرض جوراً إلاّ غياب الخلافة الإسلامية من وجه الأرض، ويستأنس لذلك بما ذهب إليه بعضهم، من أن المهدي هو أول خلفاء الدولة الإسلامية المرتقبة، مستدلاً بوصف كون الأرض قبله قد ملئت جوراً، كما في بعض الروايات .
وأقرب من ذلك، هو الاستدلال بما جاء في المسند عن حذيفة مرفوعاً: ((تكون النبوة فيكم ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء اللَّه أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء اللَّه أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريةً، فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)). ففي هذا الحديث: ذكر النبوة، ثم الخلافة الراشدة زمان السلف، ثم ملك عاض، وقد كان ذلك في زمان بني أمية، وبني العباس، وملك العثمانيين، ثم عصر يسبق ظهور دولة راشدة، يكون الحكم فيه جبرياً، وقد كان ذلك مع بدايات ما يسمى بـ"الاستعمار"، ثم صار في بني جلدتنا، ومن يتكلمون بألسنتنا بعد ما يسمى "عهد الاستقلال".
وسواء كان أول الخلافة المرتقبة المهدي المنتظر، أو غيره، فلا شك أنّا في عصر بلا خلافة، فليسو -إذن- إلاّ دعاة على أبواب جهنم.
فإن ثبت أنّا في هذا العصر الذي غابت فيه الخلافة، فالهرب من أُمرائه واجب، كما قال ابن حجر: ((قال -يعني الطبري-: "وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك؛ خشية من الوقوع في الشر"، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن قرط المتقدم ذكرها)) أهـ.
قلت: يقصد ما جاء في سنن ابن ماجه: ((فلأن تموت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم)).
فلتحذر أخي أن تكون من جثا (جماعات) جهنم، المستجيبين لدعاتها هؤلاء، فلا تبايعهم بصفقة يدك، ولا تعطهم مالك؛ فإنهم يبتاعونك بغير مقابل، ولا سلعة لهم سوي مقعد في جهنم!؛ وما الأمير الذي أمر النبي e بالصبر عليه وإن جلد ظهرك، وأخذ مالك إلاّ أميرٌ لجماعة المسلمين، سواء كان في زمان "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي"، أو في زمان "دعاة على أبواب جهنم"، إن كان ثم أمير يومئذ، كما قال ابن حجر: ((قوله: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم": بكسر الهمزة، أي أميرهم، زاد في رواية أبي الأسود : "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني: "فإن رأيت خليفة فالزمه، وإن ضرب ظهرك، فإن لم يكن خليفة فالهرب")).
وقال النووي: ((وفي حديث حذيفة هذا: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية)) .
بل أزيد وأقول كذلك: ليس بعيداً أن توصف دولهم بأنها دول "خارجية"، زيادة على وثنيتها؛ وذلك لخروج كيانها عن خط الخلافة المسلمة، التي كانت بالأمس، ومحاربتها له. وإن الخروج علي السير في طريقة الخلافة التي دامت قروناً، وعن خط الأمة الواحدة في الجملة هو عندي أخص صفات الخوارج، قبل مسألة التكفير بالكبيرة، فلعنة اللَّه على حزبية عصرية نتنة، تنادي بكشف "ظهر الأُمة!" لأُمراء مبتدعة خونة، التفرق سيماهم، والوثنية الوضعية دينهم، يوالون أهل الكفران، ويخونون دينهم، وصالحي أُمة الإسلام.