منقول من كتاب (فض الخصام في طواغي الحكام ) للشيخ الفاضل أبي اليمان الربعي
-فقيل هو أعجمي معرب، مثل "هاروت"، "وماروت".
-وقيل هو عربي. واختلف هؤلاء في اشتقاقه، كما قال الشوكاني: الطاغوت: فعلوت، من طغى يطغي ويطغو، إذا جاوز الحد. قال سيبويه: هو اسم مذكَّر مفرد، أي اسم جنس، يشمل القليل والكثير. وقال أبو على الفارسي: إنه مصدر: كرهبوت، وجبروت، يوصف به الواحد، والجمع. وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه إلى موضع اللام: كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفًا؛ لتحركها، وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت. واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل الطاغوت في اللغة: مأخوذ من الطغيان، يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ، من اللؤلؤ1.
أما تعريفه في الشرع: فهو كل ما صرف العبد وصده عن عبادة اللَّه، وإخلاص الدين والطاعة للَّه2 ، وكان نداً له في شيء من خصائصه.
وقال عبد القادر بن عبد العزيز في تفصيل حسن: إن أجمع قول في معنى الطاغوت: هو قول من قال: إنَّ الطاغوت هو كل ما يُعبد من دون اللَّه -وهذا قول الإمام مالك- وقول من قال: إن الطاغوت هو الشيطان -وهو قول جمهور الصحابة والتابعين- وماعدا هذين القولين ففروع منهما. وهذان القولان يرجعان إلى أصل واحد له ظاهر وحقيقة، فمن نظر إلى الظاهر قال الطاغوت: كل ما يُعبد من دون اللَّه، ومن نظر إلى الحقيقة قال الطاغوت: الشيطان، وذلك لأنَّ الشيطان هو الداعي إلى عبادة ما يُعبد من دون اللَّه كما أنَّه الداعي إلى كل كُفرٍ، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا( [مريم: 83]، فكل من كَفَر، وكل من عَبَد غير اللَّه، فبتزيين الشيطان، وكل من عَبَد غير اللَّه فهو إنما يعبد الشيطان على الحقيقة، كما قال تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [يس: 60]، وقال تعالى عن إبراهيم ؛: )يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ( [مريم: 44]، مع أن أباه كان يعبد الأصنام، كما قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً( [الأنعام: 74]. فالشيطان هو الطاغوت الأكبر، فكل من عَبَد صنمًا من حجرٍ، أو شجرٍ، أو بشرٍ، فهو إنما يعبد الشيطان، وكل من تحاكم إلى بشرٍ، أو قانون، أو دستور من دون اللَّه، فهو إنما يتحاكم إلى الشيطان، وهذا هو معنى تحاكمه إلى الطاغوت.
فمن أَجملَ بحسب الظاهر قال: الطاغوت كل ما يُعبد من دون اللَّه، ومن أجمل بحسب الحقيقة قال: الطاغوت الشيطان، كما نقلته آنفًا.
ومن فصَّل بحسب الظاهر قال: كل معبود، أو متبوع، أو مُطاع، أو مُتَحاكَم إليه من دون اللَّه، وهو قول ابن القيم، وقريب منه قول سليمان بن سحمان 3.
وكل هذا يرجع إلى معنى العبادة، فالإتباع، والطاعة، والتحاكم، كلها عبادات ينبغي ألاَّ تصرف إلاَّ للَّه تعالى، كما قال تعالى: )اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ( [الأعراف: 3]، فهذا في الاتباع، وقال تعالى: )قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهََ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ( [آل عمران: 32]. وهذا في الطاعة، وقال تعالى: )وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا( [الكهف: 26]، وهذا في التحاكم. فإفراد اللَّه تعالى بالاتباع والطاعة والتحاكم كل هذا داخل في إفراده بالعبادة -الذي هو توحيد الأُلوهية- تمامًا كإفراده بالصلاة، والدعاء، والنّسك، فهذه كلها عبادات، وقد قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ( [الأنبياء: 25]، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالقول الجامع في معنى الطاغوت بحسب الظاهر: أنَّه كل ما يُعبد من دون اللَّه، وأمَّا على التفصيل فقد ورد في الكتاب والسنة النص على نوعين من الطواغيت: طاغوت العبادة، وطاغوت الحكم.
أ- فطاغوت العبادة: ورد في قوله تعالى: )وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا( [الزمر: 17]، وهو كل ما عُبِدَ من دون اللَّه من شيطان، أو إنسان، حي أو ميت، أو حيوان، أو جماد من شجر، أو حجر، أو كوكب من الكواكب، سواء عبد بتقديم القرابين، له أو بدعائه، أو بالصلاة له من دون اللَّه، أو بطاعته وأتباعه فيما يخالف شرع اللَّه.
ويُقيَّد: "ما عُبد من دون اللَّه" بلفظ: "وهو راضٍ بذلك"؛ ليخرج منه مثل عيسى بن مريم ، أو غيره من الأنبياء، والملائكة، والصالحين؛ فهؤلاء عُبدوا من دون اللَّه وهم لا يرضون، بذلك فلا يُسمى أحدٌُ منهم طاغوتًا. قال ابن تيمية /: $وقال تعالى: )وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ( [سبأ: 40،41] يعني أن الملائكة لم تأمرهم بذلك، وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم4 .
ب- وطاغوت الحكم: ورد في قوله تعالى: )يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ( [النساء: 60]، وهو كل ما تُحوكِمَ إليه من دون اللَّه: من دستور وضعي، أو قانون وضعي، أو حاكم بغير ما أنزل اللَّه، سواء كان سلطانًا، أو قاضيًا، أو غيرهما5 .
والطاغوت من البشر الذي أُمرنا بالكفر به مقابل الالتزام بالتوحيد كافر بلا تردد، فكيف إذا كان من رؤوسهم:
رؤوس الطواغيت
قال محمد بن عبد الوهاب -معددًا رؤوس النوعين السابقين-: $الطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة:
الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير اللَّه، والدليل قوله تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [يس: 60].
الثاني: الحاكم الجائر، المغيِّر لأحكام اللَّه تعالى، والدليل قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا( [النساء: 60].
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل اللَّه 6، والدليل قوله تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( [المائدة: 44].
الرابع: الذي يدَّعي علم الغيب من دون اللَّه، والدليل قوله تعالى: )عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا $ إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( [الجن: 26،27]، وقال تعالى: )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ( [الأنعام: 50].
الخامس: الذي يُعبد من دون اللَّه، وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: )وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ( [الأنبياء: 29]7 اهـ.
أقوال أهل العلم في طاغوتية الحاكم بغير شرع اللَّه
ومن أقوال أهل العلم أيضًا في التنصيص على طاغوتية الصنف الذي نحن بصدده:
قول ابن تيمية: من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب اللَّه: طاغوت8 .
وقال ابن القيم: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير اللَّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللَّه، أو يتَّبعونه على غير بصيرة من اللَّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة للَّه9 .
قال ابن عثيمين: فالمتبوع مثل الكهان والسحرة وعلماء السوء، والمعبود مثل الأصنام، والمطاع مثل الأُمراء الخارجين عن طاعة اللَّه10 .
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( [النساء: 60]، بعد أن ساق أقوالاً في معنى الطاغوت: والآية أعم من ذلك كله؛ فإنها ذامَّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا11.
وقال عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبا بطين: ويشمل أيضًا كل من نصَّبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم اللَّه ورسوله12 .
وقال ابن سحمان: الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة13 .
وقال عبد اللَّه القرعاوي: من حكم بغير ما أنزل اللَّه فهو طاغوت، ويدخل في ذلك جميع القوانين الوضعية14.
وقال السعدي: $كل من حكم بغير شرع اللَّه فهو طاغوت15 .
وقال الشنقيطي: وكل تحاكم إلى غير شرع اللَّه فهو تحاكم إلى الطاغوت16.
وقالت لجنة الفتوى السعودية: والمراد بالطاغوت في الآية: كل ما عدل عن كتاب اللَّه تعالى وسنَّة نبيه ج إلى التحاكم إليه من: نظم وقوانين وضعية، أو تقاليد وعادات متوارثة، أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك، أو بما يراه زعيم الجماعة، أو الكاهن. ومن ذلك يتبين: أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع اللَّه داخلة في معنى الطاغوت17 .
الهوامش
1- "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير" (1/ 275)، وينظر معاجم اللغة في مادة: "ط غ و".
2- محمد حامد الفقي في تعليقه على "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" لعبد الرحمن بن حسن (ص: 269).
3- سيأتي نصه وقول غيرهما قريبًا.
4- "مجموع الفتاوى" (4/ 135 ، 136).
5 "الجامع في طلب العلم الشريف".
6 قال أبو عمر بن عبد الرحمن في كتابه: "ميراث الأنبياء" (ص: 24): $مقصود الشيخ [يعني محمدًا]: القاضي الذي يحكم بشريعة ذلك المغير لأحكام اللَّه. قلت: يعني الذي يتخذها مرجعًا للتشريع، يلتزم حكمه، وما أظن الشيخ يكفِّر في وقائع الأعيان، واللَّه أعلم.
7- "رسالة في معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه"، أُنظر: (1/ 377 مؤلفات).
8- (فتاوى: 28/ 201).
9- "إعلام الموقعين" (1/ 50).
10- (9/ 17 فتاوى).
11- "تفسير القرآن العظيم" (2/ 346).
12- "مجموعة التوحيد" (2/ 173).
13- "الدرر السنية" (14/ 503).
14- "الجديد في شرح كتاب التوحيد" (ص: 340).
15- "تفسير السعدي" (1/ 184).
16- "أضواء البيان" (4/ 420).
17- "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/ 784، فتوى رقم 8008).
تعريف الطاغوت:
الطاغوت لغة: إختلف أهلها في أصله:-فقيل هو أعجمي معرب، مثل "هاروت"، "وماروت".
-وقيل هو عربي. واختلف هؤلاء في اشتقاقه، كما قال الشوكاني: الطاغوت: فعلوت، من طغى يطغي ويطغو، إذا جاوز الحد. قال سيبويه: هو اسم مذكَّر مفرد، أي اسم جنس، يشمل القليل والكثير. وقال أبو على الفارسي: إنه مصدر: كرهبوت، وجبروت، يوصف به الواحد، والجمع. وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه إلى موضع اللام: كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفًا؛ لتحركها، وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت. واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل الطاغوت في اللغة: مأخوذ من الطغيان، يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ، من اللؤلؤ1.
أما تعريفه في الشرع: فهو كل ما صرف العبد وصده عن عبادة اللَّه، وإخلاص الدين والطاعة للَّه2 ، وكان نداً له في شيء من خصائصه.
وقال عبد القادر بن عبد العزيز في تفصيل حسن: إن أجمع قول في معنى الطاغوت: هو قول من قال: إنَّ الطاغوت هو كل ما يُعبد من دون اللَّه -وهذا قول الإمام مالك- وقول من قال: إن الطاغوت هو الشيطان -وهو قول جمهور الصحابة والتابعين- وماعدا هذين القولين ففروع منهما. وهذان القولان يرجعان إلى أصل واحد له ظاهر وحقيقة، فمن نظر إلى الظاهر قال الطاغوت: كل ما يُعبد من دون اللَّه، ومن نظر إلى الحقيقة قال الطاغوت: الشيطان، وذلك لأنَّ الشيطان هو الداعي إلى عبادة ما يُعبد من دون اللَّه كما أنَّه الداعي إلى كل كُفرٍ، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا( [مريم: 83]، فكل من كَفَر، وكل من عَبَد غير اللَّه، فبتزيين الشيطان، وكل من عَبَد غير اللَّه فهو إنما يعبد الشيطان على الحقيقة، كما قال تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [يس: 60]، وقال تعالى عن إبراهيم ؛: )يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ( [مريم: 44]، مع أن أباه كان يعبد الأصنام، كما قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً( [الأنعام: 74]. فالشيطان هو الطاغوت الأكبر، فكل من عَبَد صنمًا من حجرٍ، أو شجرٍ، أو بشرٍ، فهو إنما يعبد الشيطان، وكل من تحاكم إلى بشرٍ، أو قانون، أو دستور من دون اللَّه، فهو إنما يتحاكم إلى الشيطان، وهذا هو معنى تحاكمه إلى الطاغوت.
فمن أَجملَ بحسب الظاهر قال: الطاغوت كل ما يُعبد من دون اللَّه، ومن أجمل بحسب الحقيقة قال: الطاغوت الشيطان، كما نقلته آنفًا.
ومن فصَّل بحسب الظاهر قال: كل معبود، أو متبوع، أو مُطاع، أو مُتَحاكَم إليه من دون اللَّه، وهو قول ابن القيم، وقريب منه قول سليمان بن سحمان 3.
وكل هذا يرجع إلى معنى العبادة، فالإتباع، والطاعة، والتحاكم، كلها عبادات ينبغي ألاَّ تصرف إلاَّ للَّه تعالى، كما قال تعالى: )اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ( [الأعراف: 3]، فهذا في الاتباع، وقال تعالى: )قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهََ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ( [آل عمران: 32]. وهذا في الطاعة، وقال تعالى: )وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا( [الكهف: 26]، وهذا في التحاكم. فإفراد اللَّه تعالى بالاتباع والطاعة والتحاكم كل هذا داخل في إفراده بالعبادة -الذي هو توحيد الأُلوهية- تمامًا كإفراده بالصلاة، والدعاء، والنّسك، فهذه كلها عبادات، وقد قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ( [الأنبياء: 25]، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالقول الجامع في معنى الطاغوت بحسب الظاهر: أنَّه كل ما يُعبد من دون اللَّه، وأمَّا على التفصيل فقد ورد في الكتاب والسنة النص على نوعين من الطواغيت: طاغوت العبادة، وطاغوت الحكم.
أ- فطاغوت العبادة: ورد في قوله تعالى: )وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا( [الزمر: 17]، وهو كل ما عُبِدَ من دون اللَّه من شيطان، أو إنسان، حي أو ميت، أو حيوان، أو جماد من شجر، أو حجر، أو كوكب من الكواكب، سواء عبد بتقديم القرابين، له أو بدعائه، أو بالصلاة له من دون اللَّه، أو بطاعته وأتباعه فيما يخالف شرع اللَّه.
ويُقيَّد: "ما عُبد من دون اللَّه" بلفظ: "وهو راضٍ بذلك"؛ ليخرج منه مثل عيسى بن مريم ، أو غيره من الأنبياء، والملائكة، والصالحين؛ فهؤلاء عُبدوا من دون اللَّه وهم لا يرضون، بذلك فلا يُسمى أحدٌُ منهم طاغوتًا. قال ابن تيمية /: $وقال تعالى: )وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ( [سبأ: 40،41] يعني أن الملائكة لم تأمرهم بذلك، وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم4 .
ب- وطاغوت الحكم: ورد في قوله تعالى: )يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ( [النساء: 60]، وهو كل ما تُحوكِمَ إليه من دون اللَّه: من دستور وضعي، أو قانون وضعي، أو حاكم بغير ما أنزل اللَّه، سواء كان سلطانًا، أو قاضيًا، أو غيرهما5 .
والطاغوت من البشر الذي أُمرنا بالكفر به مقابل الالتزام بالتوحيد كافر بلا تردد، فكيف إذا كان من رؤوسهم:
رؤوس الطواغيت
قال محمد بن عبد الوهاب -معددًا رؤوس النوعين السابقين-: $الطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة:
الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير اللَّه، والدليل قوله تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [يس: 60].
الثاني: الحاكم الجائر، المغيِّر لأحكام اللَّه تعالى، والدليل قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا( [النساء: 60].
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل اللَّه 6، والدليل قوله تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( [المائدة: 44].
الرابع: الذي يدَّعي علم الغيب من دون اللَّه، والدليل قوله تعالى: )عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا $ إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( [الجن: 26،27]، وقال تعالى: )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ( [الأنعام: 50].
الخامس: الذي يُعبد من دون اللَّه، وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: )وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ( [الأنبياء: 29]7 اهـ.
أقوال أهل العلم في طاغوتية الحاكم بغير شرع اللَّه
ومن أقوال أهل العلم أيضًا في التنصيص على طاغوتية الصنف الذي نحن بصدده:
قول ابن تيمية: من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب اللَّه: طاغوت8 .
وقال ابن القيم: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير اللَّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللَّه، أو يتَّبعونه على غير بصيرة من اللَّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة للَّه9 .
قال ابن عثيمين: فالمتبوع مثل الكهان والسحرة وعلماء السوء، والمعبود مثل الأصنام، والمطاع مثل الأُمراء الخارجين عن طاعة اللَّه10 .
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ( [النساء: 60]، بعد أن ساق أقوالاً في معنى الطاغوت: والآية أعم من ذلك كله؛ فإنها ذامَّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا11.
وقال عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبا بطين: ويشمل أيضًا كل من نصَّبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم اللَّه ورسوله12 .
وقال ابن سحمان: الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة13 .
وقال عبد اللَّه القرعاوي: من حكم بغير ما أنزل اللَّه فهو طاغوت، ويدخل في ذلك جميع القوانين الوضعية14.
وقال السعدي: $كل من حكم بغير شرع اللَّه فهو طاغوت15 .
وقال الشنقيطي: وكل تحاكم إلى غير شرع اللَّه فهو تحاكم إلى الطاغوت16.
وقالت لجنة الفتوى السعودية: والمراد بالطاغوت في الآية: كل ما عدل عن كتاب اللَّه تعالى وسنَّة نبيه ج إلى التحاكم إليه من: نظم وقوانين وضعية، أو تقاليد وعادات متوارثة، أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك، أو بما يراه زعيم الجماعة، أو الكاهن. ومن ذلك يتبين: أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع اللَّه داخلة في معنى الطاغوت17 .
الهوامش
1- "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير" (1/ 275)، وينظر معاجم اللغة في مادة: "ط غ و".
2- محمد حامد الفقي في تعليقه على "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" لعبد الرحمن بن حسن (ص: 269).
3- سيأتي نصه وقول غيرهما قريبًا.
4- "مجموع الفتاوى" (4/ 135 ، 136).
5 "الجامع في طلب العلم الشريف".
6 قال أبو عمر بن عبد الرحمن في كتابه: "ميراث الأنبياء" (ص: 24): $مقصود الشيخ [يعني محمدًا]: القاضي الذي يحكم بشريعة ذلك المغير لأحكام اللَّه. قلت: يعني الذي يتخذها مرجعًا للتشريع، يلتزم حكمه، وما أظن الشيخ يكفِّر في وقائع الأعيان، واللَّه أعلم.
7- "رسالة في معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه"، أُنظر: (1/ 377 مؤلفات).
8- (فتاوى: 28/ 201).
9- "إعلام الموقعين" (1/ 50).
10- (9/ 17 فتاوى).
11- "تفسير القرآن العظيم" (2/ 346).
12- "مجموعة التوحيد" (2/ 173).
13- "الدرر السنية" (14/ 503).
14- "الجديد في شرح كتاب التوحيد" (ص: 340).
15- "تفسير السعدي" (1/ 184).
16- "أضواء البيان" (4/ 420).
17- "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/ 784، فتوى رقم 8008).