ملتقى الأمة الواحدة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى إسلامي علمي ثقافي يسعى لوحدة المسلمين تحت راية التوحيد والنهوض بالأمة ورفعتها والتمكين لها في الأرض


2 مشترك

    رسالة ( حكم مستور الدين) للشيخ الفاضل أبي أيوب البرقوي

    ام محمد
    ام محمد


    المساهمات : 6
    تاريخ التسجيل : 22/01/2011

    رسالة ( حكم مستور الدين) للشيخ الفاضل أبي أيوب البرقوي Empty رسالة ( حكم مستور الدين) للشيخ الفاضل أبي أيوب البرقوي

    مُساهمة  ام محمد الأحد يناير 23, 2011 4:11 am

    هذه رسالة ( حكم مستور الدين)
    للشيخ الفاضل أبي أيوب البرفوي
    وقد نشرت في العدد الأول من مجلة الأمة الواحدة



    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمدُ لله الذي أرسل رسلَه بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقـوم الناس بالقسط: (إنّ الله يُحبُّ المقسطين).
    أما بعد: فهذه رسالةٌ موجزةٌ في الردِّ على من أوجبَ الشهادة بالكفر على مجهول الدين، أو ما يعرف في اصطلاح المخالفين بـ مجهول الحال، أو مستور الحال.
    وهي قضيّة أخطأ فيها بعضُ المنتسبين إلى الإسلام خطأً فاحشاً فقالوا:
    "مجهول الدين عندنا كافرٌ، تجري عليه أحكام أهل الكفر حتى يتبيّن لنا خلافه، لأنّ الأصلَ في الناس اليوم هو الكفر فمن جهلنا حالَه حكمنا بكفرِهِ". هذا هو موضع النزاع أمّا معلوم الدين فقد فرغنا منه واتفقنا معهم في الحكم بالإسلام على من أظهر الإسلام، والكفر على من أظهر الكفر، وأنّ الحكم مقيّدٌ بما بدا لنا، أمّا سرائر الناس وما تخفي صدورهم فهذا أمرٌ ليس لنا منه شيءٌ، إنما هو لله وحده عالم الغيبِ والشهادة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين: "إني لم أُومَرْ أنْ أنقُبَ قلوبَ الناس، ولا أشُقَّ بطونَهم". وهذا أمر مازال غلاة المرجئة والتكفير يشطّون فيه شططاً بعيداً، والحمد لله الذي جعلنا أمّةً وسَطاً وكفانا بهدايتِهِ.
    وانحصر النزاعُ بيننا وبين المخالفين كما تقدّم في مجهول الدين، فهو موضوع هذه الرسالة. ومقصدنا بمجهول الدين هو:
    "المُعَيّن الذي لم يبدُ لنا بوجهٍ من الوجوه ما دينُهُ ولأيّ مِلّةٍ انتسابُه".
    وللمخالفين في هذا المعيّن مذهبٌ فاسدٌ منافٍ لحكمِ الشريعة، وحججِ العقول، فهم لا يتردّدون في قولهم: هذا كافر، أي: جاحد لدين الإسلام، ويُجرون عليه أحكام أهل الكفر. وهذه الشهادة التي ننازعهم فيها هي شهادة زور، وشهادة الزور هي: "الشهادة التي تتضمّن إثبات ما ليس بثابت، أو إسقاط ما هو ثابت"، وهي من كبائر الإثمِ والفواحش، وقد قرنَ اللهُ تحريمها بتحريم الشرك به فقال- عزّ وجلّ-: (فاجتنبوا الرّجسَ من الأوثانِ، واجتنبوا قول الزور)، وأثنى الله على عباده المخلصين بقوله- سبحانه-Sadوالذين لا يشهدون الزور). وفي الصحيح أنّ رسول الله عليه السلام قال: "أَلا أُنبّئكُم بأكبرِ الكبائر"- ثلاثاً- قالوا بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدَين" وجلَسَ وكان متّكئاً فقال: "ألا وقَولُ الزّور" قال الراوي: فما زال يُكرّرها حتى قلنا ليتَهُ سكت. هذا واعلم أنّ قول المخالفين في المعيّن- مجهول ِ الدين-: هذا كافر!! هو خبرٌ محضٌ، إما أن يكون صادقاً أو كاذباً، والكافر هو الجاحد لدين الإسلام، وصاحبُ هذه الشهادة أي هذا الخبر مطالبٌ ببرهان على صحّة زعمهِ، وإلا كان مفترياً، إذ لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يشهد بخلاف ما يعلم أو بما لا يعلم، قال الله عزّ وجلّ: (ولا تقفُ ما ليس لك بهِ علمٌ إنّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ، كُلّ أولئك كان عنه مسئولاً). فشهادةُ الشاهد بما لا يعلم كشهادته بخلاف ما يعلم، كلتاهما عصيانٌ لله تعالى لأنّه سبحانه قد أوثقَ أمراً في كتابه الكريم، وشرط شرطاً ألزمه المؤمنين كافةً فقال جلّ وعلا: (يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوّامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنّكم شنئانُ قومٍ على ألاّ تعدلوا. اعدلوا هو أقربُ للتقوى، واتقوا الله، إنّ الله خبيرٌ بما تعملون) فمن شهد بالخرص وما ليس له به علمٌ لم يُقسط وقد قال رسولُ الله عليه السلام: "إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذبُ الحديث". فالشهادةُ بالقسط قيدٌ أوجبه الله على المكلَّفين في الدنيا والآخرة، ولا يجوز لأحدٍ كائناً من كان أن يرجمَ بالغيب لأنّ الغيبَ ضدّ الشهادة، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عباس عن سيّد الشهداء والمرسلين صلى الله عليه وسلم أنه ذكر المحشر، ثم قال: "وإنّ ناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي. فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم" قال الرسول: فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم، فلما توفّيتني كنتَ أنتَ الرّقيبَ عليهم، وأنت على كلّ شيء شهيد).
    ومما يدعوا إلى الدهشة وطول العجب أنّ أصحابنا المنازعين لنا في هذه المسألة عامتهم من الظاهرية نفاة القياس المعهود عند الفقهاء، ومع ذلك قاسوا قياساً هو شرٌّ من ذلك القياس، إذ ألحقوا ما لا حكم فيه بما فيه حكم من غير عِلّةٍ ولا سبب، وهذا باطلٌ بلا شك، وأعجب من ذلك عدم ضبطهم القياس الكلي وهو القياس المتفق على صحته لدى كافة العقلاء، والظاهرية هم أتقن الناس له، لأنهم استغنوا به في الغالب عن القياس المعهود. فقد أنتج المخالفون قضيّةً خاطئةً عن مقدّمةٍ كبرى فاسدة وباطلة، فكان خطؤهم خطأً منطقياً محضاً، ثم بنواْ على هذا الخطأ أموراً عظيمةً فقد قدّمنا أنهم يُجرون على المعيّن المجهول أحكام أهل الكفر، فلذلك رأيت أنه من النصيحة- والدين النصيحة- أن أبسط هذه المسألة الأصولية بأوضح وأيسر ما يمكنني بيانه في هذا المختصر الوجيز، فأقول:قال الله سبحانه في كتابه الكريم:
    (هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن).
    وقال- تعالى- عن الجنّ: (وأنا منّا الصالحون، ومنّا دون ذلك كنّا طرائق قِددا- إلى قوله- وأنا منّا المسلمون ومنّا القاسطون، فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشَدَا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطَباً).
    فتبيّن مما تقدّم أنّ الآدمية والجنيّة ليست علّة الكفر فقد يكون الآدمي كافراً أو مؤمناً، وكذلك الجنّي بل إنّ إبليس- لعنه الله- ما هو إلا مرتد كان مؤمناً مسلماً فكفر وفَسَقَ عن أمر ربّه.
    فسقط القياس هاهنا، وأعني به "إلحاق ما لاحكم فيه بما فيه حكم بجامع العلّة" بنص القرآن، أي لا نستطيع أن نقول في المعيّن:
    هذا كافر لأنه إنسان
    أو: هذا إنسان إذن هذا كافر
    هذا لا يقوله عاقلٌ وهو أمرٌ فرغ منه، نعم؛ من قال: إنّ مجرّد كون الإنسان في دار الكفر هو ناقض من نواقض الإسلام فذاك الذي يلزمه تكفير المتواجدين في دار الكفر، وهذا لا يقوله المخالفون المعنيّون بهذا الردّ لأنّ عامتهم مقيم في بلاد أوربا!! وهذا يلزم منه الحكم عليهم هم أنفسهم بالكفر، وهو مذهبٌ حاججنا عليه بعضُ المخالفين لنا في بلاد السودان، وهي قضيّة سيأتي تفصيلها في مبحث مستقل متعلق بنواقض الإسلام، ونعود إلى مخالفينا اليوربيين فنقول: إنكم مضطرون إلى سبيلين لا ثالث لهما لإثبات صحة قولكم في المعين: هذا كافر.
    إما أن تأتوا ببرهان خاص لإثبات كفر وجحود هذا المعين، وهذا ممكن ولكن بوقوعه تخرج المسألة عن موضع النـزاع إلى موضع الاتفاق، لأنه لا يصير بهذا الإثبات مجهولَ الحال! بل معلومَ الدين، وليس هذا موضع النزاع. فإن سلّم الخصمُ بعدم توفّر الدليل الخاص لإثبات كفر هذا المعيّن، كأن نرى شخصاً على رأس جبلٍ لا نعرفُ عنه شيئاً، ولا نعرفُ لأي ملّةٍ ودين ينتسب، ولم نتيقّن إلا من أمرٍ واحدٍ وهو أنّ هذا الشاخص على الجبل هو رجلٌ من بني آدم، ليس شجراً ولا حجراً، فليس لمثل هذا المعيّن مجالٌ لخصومنا في الحكم عليه بالكفر إلا "الإيجاب الكلي" وهو: "إثبات الصفة لجميع النوع" وهو ما يعرف عند المنطقيّين بالقياس الكلي أو الشمولي، وربما سمّوه: البرهاني، لقوّة دلالته، ومن أهم أركان هذا القياس ليُنتج نتيجةً صادقةً أن تكون المقدّمة الكبرى كلّية مسوِّرةً للأجزاء كلّها، لنتيقّن دخول الجزء المعيّن في حكم الكلّ وإلا كان ظنيّاً، والظنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً، ثمّ انتبه إلى أمرٍ هام وهو أنّ المقدّمتين الكبرى والصغرى يجب أن تكونا صادقتين لتصدق النتيجة وإلا فسدت، وهذا ما يعرف بمادة القياس، فإن كانت مادّة هذا القياس قطعيّة أنتجت نتيجة قطعيّة، وإن كانت ظنيّة أنتجت نتيجة ظنيّة، وإن كانت كاذبةً أنتجت نتيجةً كاذبة.
    مثال شرعي:
    الكبرى الصادقة: "كلُّ مُسكرٍ حرامٌ"
    الصغرى الصادقة: "نبيذ العسل مسكرٌ"
    النتيجة: نبيذ العسل حرام.
    فهذه النتيجة صادقة قطعيّة يقينيّة لأنّ المقدّمة صادقة متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كما ترى محكمة بنظم: "كل" المسوّرة، فهو نظمٌ كلّيٌ محكمٌ مسوّرٌ بـ"كل" التي هي من أقوى صِيَغ العموم في اللسان العربي بل هي نصٌّ فيه، وبهذا النص تيقّنا دخول كافة الأجزاء بلا استثناء في حكم الكل، فقولنا "كل" المسوّرة أي التي تحيط وتسوِّر كافةَ الأجزاء ولا تستثني منها شيئاً.
    وإذ قد صحّت الكليّة وقام برهان صدقها لم يبق أمامنا إلا ضبط تصحيح المقدّمة الصغرى، وحذار يا أخي من أن تأتي بمقدّمة صغرى كاذبة فتسلك بذلك سبيل الغافلين في إدخال الأجزاء الخارجة عن الكل في حكم الكل كأن تقول خطأً: "البطيخ مسكر"
    وتُنتج: "البطيخ حرام"
    فهذه نتيجة خاطئةٌ كاذبةٌ وإنِ ادعى صاحبها اعتماده على المقدمة الكبرى الصادقة فافهم هذا جيّداً.
    وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنّ النبيّ عليه السلام بعثه إلى اليمن فسأله عن أشرِبَةٍ تصنَعُ بها، فقال النبيُّ "وما هي"، قال: البِتعُ، والمِرزُ. فقال رسول الله: "كلّ مسكر حرام"، وفي رواية مسلم قال أبو موسى: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم وخواتمه.
    فانظر كيف استغنى رسولُ الله عليه السلام عن الكلام الكثير بهذه المقدمة الكبرى الموجزة مع أنه كان أُميّا لم يقرأ قط كتب الفلاسفة ومنطق أُرسطاطاليس، لكن الرسول مع كونِهِ أعقلَ الناس وأحسنهم هَدياً وبياناً، قد كان نبيّاً لا ينطق عن الهوى، وخير الكلام ما دلّ وقلّ، وهي إحدى معجزاته عليه السلام وفي الصحيحين أنه كان يقول: "أُوتيتُ جوامع الكَلِم" وهذا ما يرفع الظاهريةُ عقيرتَهم به، وهو مقصدي حين قلتُ: إنهم أتقن الناس للقياس الكلي، لأنه القياس القطعي الذي استغنوا به في الغالب عن القياس الظني المعهود، لأنه مبني على أصلٍ معهود وهو إلحاق مالا حكم فيه بما فيه حكم بجامع العلّة، وهم مع نفيهم العلّة عن الله تعالى يقولون: ما مِن أمر متعلّق بالدين إلا وفيه حكم لقول الله تعالى: (اليوم أكملتُ دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي) وإنّ الحكم إما أن يكون قد ورد بنص خاص أو عام، وقد أوتي رسول الله جوامع الكلم فالتقصير في طلب حكم الله تعالى منّا، أمّا الحق تبارك فقد أكمل لنا الدين كلّه، وأما رسوله فقد بلّغ رسالةَ الله تبليغاً تاماً غير منقوص، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد العلمَ فلْيُثَوِّر القرآنَ فإنّ فيه خبر الأولين والآخرين". وسأفرد في إبطال القياس الظني رسالةً خاصةً إتحافا لأصحابنا ونزولاً عند رغبة كثير منهم، ونعود لقضيّتنا فنقول: إنّ المقدّمة الكبرى التي اعتمد عليها المخالفون في تكفير مجهول الدين هي قولهم: "إنّ الأصل في الناس- اليوم- هو الكفر" ومن هنا زلّت أقدامهم بعد ثبوتها لأنّ هذه المقدّمة باطلة كاذبة فاسدة من كلّ وجهٍ، ولو عكست لكانت أقرب إلى الحق منها إلى الباطل، لأنهم إن أرادوا مبدأ خروج الناس إلى الدنيا فإنّ كافة الثّقلين بلا استثناء يولدون على فطرة الإسلام. وهذه المقدّمة الكبرى ذات الإيجاب الكلي صادقةٌ لثبوتها بالروايات المتواترة عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "كلّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يُنصّرانه أو يمجّسانه كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تُحسّون فيها من جدعاء".
    وهذه الحقيقة لا يسع المخالفين تبديلها أو إنكارها وقد قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).
    وروى البخاري عن أبي هريرة أنه كان إذا حدّث بالحديث المذكور عن الرسول يُتبعه بتلاوة هذه الآية، وثبت عن رسول الله أنه نهى في بعض مغازيه عن قتل ذريّة المشركين فقال رجلٌ: يا رسول الله: إنما هي أبناء المشركين، فقال الرسول: ألا إنّ خياركم أبناء المشركين، ثم قال: ألا لا تقتلوا الذُرّيّة- ثلاثاً- وقال: "كلّ نسمة تولد على الفطرة حتى يُعربَ عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها أو يُنَصّرانها". فهذا هو الحقّ وضدّه الباطل وهو المشهور عن الأزارقة وكانوا من غلاة الخوارج يزعمون أنّ أبناء المشركين كفّار، وأنّهم في النار ولو ماتوا يومَ ولادتهم، لكن ما أظن المخالفين يقصدون هذا لأنّ كلامهم في الحقيقة عن المكلّفين، ومع ذلك تبقى مطالبتنا لهم بإثبات مقدّمة إيجاب كليّة وذلك بأن يثبتوا أنّ كلّ المكلّفين في هذا الزمان كفّار! فإن أقاموا البرهان على صدق وصحّة الكليّة عندئذ تصح النتيجة، ويصدق إثبات الصفة لجميع النوع، ويصح تكفير المجهول، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وهذا أمرٌ لا سبيل لهم إليه لتواتر الأدلّة على بقاء المؤمنين في الأرض حتى يخرج الدجال وينزل عيسى بن مريم عليه السلام آخر الزمان، وأحاديث الطائفة المؤمنة الباقية متواترة لا تخفى على طالب علم، ومعلوم: "أنّ الكليّة الموجبة تُنقض بسلبية واحدة"، ثم إنّ هؤلاء المخالفين يشهدون على أنفسهم ومن وافقهم في اعتقادهم بالإسلام مع أنهم يقيمون منذ سنين في بلاد اليورُب بين ظهراني اليهود والنصارى والعلمانيين! فانسدّت الأبواب من كلّ وجه لإثبات صحة تلك الكليّة إلا إن سعوا لإكفار كل من دونهم! فلم يبق أمامهم سوى بابٍ واحدٍ لا شريك له وهو: الاستدلال بالخاص على العام!! أي إثبات الإيجاب الكلي بالجزئيّات، وهو ما يُعرف بالاستقراء، ولا يتحقّق القطع بصحّة المقدمة الكبرى الكلية إلا بالاستقراء التام، فإن لم يكن تامّاً فإنه لا يفيد القطع واليقين! بل تفسد المقدّمة كلّها لأنّ الموجبة العامّة في عنصر الإمكان كاذبة أبداً، فافهم هذا جيداً، وقد قال رسول الله- عليه السلام-:
    "إياكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذبُ الحديث".
    هذا هو المسلك الحرج المتبقي، فيلزمهم الطواف على كافة المكلّفين في الدنيا، وامنتحانهم واحداً واحداً! حتى تزول جهالة الدين عن كلّ نفسٍ في الدنيا، أما الاستقراء الناقص وهو غاية ما يمكنهم الوصول إليه، فقد قدّمنا أنه لا يمكن التوصّل به إلى إثبات صحّة المقدّمة الكليّة لأنه ظنّي، وهذا ما صرّحوا به لنا فإنهم قالوا: "الله أعلم بالكل، لكن الاستقراء يدلّ على أنّ أكثر المكلّفين كفّار"، وهذا حقّ لا نخالفهم فيه، ولا حاجة لإثباته بالاستقراء أو الخرص بل يكفي قول الله تعالى لنبيّه: (وما أكثر الناس ولو حرصتَ بمؤمنين). لكن هذه الحقيقة غير الكليّة لا يصلح شرعاً ولا عقلاً الاستدلال بها على تكفير المعيّن من مجهولي الدين، إذ قد يكون هذا المعيّن من القليل المؤمن المسلم، فيكون مَن وصفه بالكفر هو الخرّاص، الراجم بالغيب، والشاهد بالزور، والعلم كما قال أهل العلم: "إما نقلٌ مصدّق صحيح، أو استدلال محقّق صريح". وما عداهما ظنّ، قال الحقّ سبحانه: (إنّ الظنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً).
    وهؤلاء أهل الرأي بنواْ دينهم على الظنّ والهوى حتى احتج بعضهم علينا فقال: جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما مبنيّة على الظنون بل قالوا: إنّ عامة الأحكام الشرعية أساسها الظن، ونحن نكفّر مجهول الدين ونستبيح مالَه ودمَه اعتماداً على الظنّ الغالب. كما أخبرني بعضهم أنه استوقف رجلاً في إحدى الغابات لا يعرف من هو، ولا ابن مَنْ هو، ولا إلى مَنْ انتسابُه، قال فرفعتُ عليه السلاح فدهشَ لا يدري لمَ أُريد قتله حتى عجِزَ عن النطقِ بحرفٍ واحدٍ، فبادرتُه فقتلتُه. انتهى كلام الآثم الظالم، يريد عَرَضَ الحياة الدنيا، والله يُريد الآخرة، واللهُ لا يحب الظالمين، وهذه واللهِ من أماراتِ الساعة، لا يعرفُ القاتِلُ فيمَ قَتَل! ولا المقتول فيمَ قُتِل.
    قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شُعبة سمعتُ يحيى بن المجيز يُحدّثُ عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال سمعتُ رسول الله يقول: "ثكلته أُمُّه! رجلٌ قتل رجلاً متعمّداً، يَجيءُ يومَ القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره، أو آخذاً رأسه بيمينه أو شماله، تخشبُ أَوداجُه دَماً من قبل العرش يقول يا ربِّ سلْ عبدَك فيمَ قتَلني".
    هذا، وقد اطلعتُ على رسالةٍ كتبها "أحد المخالفين" أورد فيها كلَّ بليّة، احتج فيها بأقوال بعض المتأخرين من أهل استحسان والقائلين بالمصلحة المرسلة، وقد ذكرنا مراراً في غير هذا الموضع أنّ أصل كلّ بليّة وإعراض عن الشريعة في هذا الزمان قائم على الاستحسان والأخذ بالمصلحة في مقابلة النصوص، وذكرنا أنّ أول من استحسن واستصلح في مقابلة النصّ هو إبليس- لعنه الله- وأول من قعّد هذه القاعدة في هذه الأمة هم المنافقون، الذين قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللهُ إلى الرسول فتولّوا إلى الطاغوت ليحكم بينهم وقد أُمروا أن يكفروا به، قال الحقّ- سبحانه- عنهم: (فكيف إذا أصابتهم مصيبةٌ بما قدّمت أيديهم ثمّ جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً)، وهكذا كل من شارك في تعطيل الشريعة واستبدالها بالقوانين الوضعيّة ممن يزعم أنه مؤمن ما منهم أحد ينتفي من الانتساب إلى الإسلام، كلّهم يقسمون بالله: ما حكمنا بهذه القوانين الوضعيّة ردّة، وما أردنا إلا الاستحسان والتوفيق بين الشريعة والنظام الدولي الجديد في القرن العشرين.
    أمّا من زعم أنّ أحكام الشريعة مبنيّة على الظنّ الغالب فقد كذب بلا شك، والحقّ الذي نؤمن به ولا نشُكّ فيه صِدقُ الرسول عليه السلام ونقطع بصحّة قولهِ- تعالى-: (ونزّلنا عليك الكتابَ تبياناً لكلّ شيء) وقوله- سبحانه-: (وكلّ شيء فصّلناه تفصيلاً)، وقوله- سبحانه-: (اليوم أكملتُ لكم دينكم) فما من شيء من أمر الدين إلا وهو مبيّن مفصّلٌ كاملٌ محفوظٌ إلى يوم الدين، وقد أمرنا الله في المقطوع بصدقه فقال: (كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط)، وهذا رسول الله عليه السلام يقول في امرأةٍ كانت تظهر السوء في الإسلام: "لو رجمتُ أحداً بغير بيّنةٍ رجمتُ هذهِ".
    وقضى رسولُ الله في ابن وليدة زَمْعة لأخيه عبد بن زمعة مع أنه كان شديد الشَّبه بعتبة بت أبي وقاص لأنّ الشرع يقول: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر" وقد قضى رسول الله بهذا مع أنّ ظنّه الغالب كان يميل إلى أنه ابن عتبة ولذلك طلب من أمِّ المؤمنين سودة بنت زمعة أن تحتجب منه وإن كان أخاها شرعاً، وكذا قال في الملاعِنة وقد أتت بمولودٍ شبيهٍ بمن قُذِفَت به: "لولا كتاب الله لكان لي ولها شأن آخر"، ومعلوم لو أَن مائةً من خيار المسلمين وأئمتهم قذفوا محصنةً من سَفَلة المؤمنين ثمّ لم يأتوا بأربعة شُهداء فأنّ حكم الله فيهم أن يجلدوا الحدّ ثمانين جلدةً، ولا تُقبل لهم شهادةً أبداً، وأولئك عند الله هم الفاسقون حتى يتوبوا من بعد ذلك ويصلحوا، ولا اعتبار للظنّ هاهنا بل الحكم حكم الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ولذلك حدّ عمر بن الخطاب؛ أبا بكرة مع أنه صحابي جليلٌ جاهَدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا باب يطول تتبعه، وفي القرآن الكريم أمثلةٌ على ذلك والله عزّ وجل يقول: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل). ومن هدي القرآن قوله سبحانه: (يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوّامين لله، شهداء بالقسط)، وقوله سبحانه: (وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إنّ الله يحبّ المقسطين)، ومن هديه للتي هي أقوم ما ذكره لنا في أحسن القصص عن نبي الله داود- عليه السلام- حين تحاكم إليه الخصمان فكاد أن يحكم لأحدهما على الآخر بالظنّ والقياس معتمداً على مقدّمة غير كلّية لولا عصمة الله له، فكان من الذين هداهم الله، وشدّ اللهُ ملكَه بالحقّ والقسط، إنّ الله يحبّ المقسطين، قال سبحانه:
    (وهل أتاك نبؤُ الخصم إذ تسوّروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعضٍ فاحكم بيننا بالحق ولا تُشطط، واهدنا سواء الصراط، إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة، فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإنّ كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظنّ داود أنما فتنّاه فاستغفر ربَّه وخر راكعاً وأناب، فغفرنا له ذلك وإنّ له عندنا لزُلفى وحسن مئاب، يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله، إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا يوم الحساب)، فتدبر أخي القارئ هذه القضية فإنّ هذا الشريك مجهول الحال لم تقم البيّنة بعدُ على بغْيِهِ واعتدائه، إنّ المقدّمة الكبرى التي احتج بها داود- عليه السلام- غير كافية لإنزال الحكم على هذا الشريك وإن كان كثيرٌ من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض! إذ قد يكون هذا المعيّن من القليل الصالح فتدبّر، وتأمّل عظم هذا الحاكم الصالح وخروره منيباً إلى الله وراكعاً، وتدبّر تشديد الحقّ- سبحانه- وأمره بالحكم بين الناس بالحق، وهذا هو المراد في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقسط) لا ما يدّعيه بعض الفقهاء تخليطاً: إلحاق ما لا حكم فيه بما فيه حكم بجامع العلّة! ثم تأمّل البَونَ الشاسع بين حكم الله وحكم المخالفين في مجهول الحال الذين يقولون في الرجل يكون خلف الحائط لم يَرَوْه، ولا يعرفون مَن هو ولا ابن مَن هو، بل لا يعرفون عنه شيئاً البتّه، ومع ذلك يقولون عن هذا الغائب خلف الجدار: هو كافر حلال الدّم والمال، فهم يشهدون من غير شهادة! بل يرجمون بالغيب من مكان بعيد فصدق رسول الله إذ يقول: "خير أمّتي قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ إنّ بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون، ويَشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السِّمَن".
    فإن قالوا: فماذا تقولون في هذا المغيّب أو مجهول الدين هذا؟
    قُلنا: نردُّ عِلمَ حالهِ إلى عالم الغيب والشهادة، ولا نحكم فيما لا نعلم قط، ما لم نتبيّن ونتثبّت كي تزول الجهالة.
    قال الحقّ- سبحانه-: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولاً).
    وليس التوقّفُ نقصاً أو بدعةً كما يروّجُ له بعضُ مُرجئة العصر، بل هو الكمال والواجب وقد أمر الله رسولَه سيّدَ العلماء بقوله: (وقل ربِّ زدني علماً). وفي صحيح البخاري عن النبي عليه السلام أنه قال: "قام موسى النبيُّ خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم!!
    فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك" ثم ذكر الرسول عليه السلام حديثاً طويلاً في قصة الخضر.
    ولذلك روي عن بعض السلف الصالح من أهل الأثر قوله: "لا أدري نصف العلم" فكان هذا يغيظ أهلَ الرأي حتى قال إمامهم ساخراً: "فلْيقُلْ مرّتين لا أدري فقد أخذ العلمَ جميعاً". هذه مذاهب الناس والكل موقوفٌ بين يدي الله، وستُكتَبُ شهادتُهم ويُسألون.
    هذا، واعلم أنّ من أراد أن ينزل أحكاماً على معيّن متعلّقة بالإسلام أو الكفر فإنه يتعيّن عليه عندئذ التبيّن والتثبّت من دين هذا المعيّن. وفي صحيح البخاري عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنه قال: كان رجلٌ في غُنيمتِهِ فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غُنَيمتَهُ فأنزل اللهُ في ذلك: (يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانمُ كثيرة، كذلك كنتم من قبلُ فمنّ الله عليكم فتبيّنوا، إنّ الله كان بما تعملون خبيراً). قال ابن الجوزي في التفسير (2/171): قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عمروٍ: "فتبيّنوا" بالنون من التبيين للأمر قبل الإقدام عليه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: "فتثبّتوا" بالثاء من الثبات وترك الاستعجال وكذلك قرؤوا في (الحجرات). اهـ
    قلتُ: وهي مفسّرة للأولى، فالتثبّت يقضي على الشكّ، والتبيّن يقضي على الجهل. وقال الله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنّ الله أعلم بإيمانهنّ، فإن علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار، لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ، وءاتوهم ما أنفقوا، ولا جناح عليكم أن تنكحوهنّ…)
    فتأمّل كيف أوجب الله التبين والتثبّت هاهنا لأنها قضيّة يترتب عليها أحكام شرعية، وقد استنبط الحافظ ابنُ حجر رحمه الله من هذه الآية جواز إطلاق العلم على الظنّ الغالب فأخطأ، لأنّ العلم المراد في هذه الآية هو العلم اليقين المتعلّق بالظاهر، وليس المراد تنقيب قلوبهنّ! هذا أمرٌ كما قدّمنا لله وحده إنه عليم بذات الصدور ولذلك قال تعالى:
    (الله أعلم بإيمانهنّ) أي ظاهراً وباطناً، (فإن علمتموهنّ مؤمنات) أي فيما بدا لكم، إذ ليس لنا إلا ذلك وقد كان يكفي في الامتحان أن تسأل المرأة: ما جاء بكِ؟
    فإن قالت: (جئتُ مهاجرةً إلى الله ورسوله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله). دخلت في حكم المؤمنات، وجرت عليها أحكام أهل الإيمان، وحرُمَ على المسلمين ردّهنّ، وأما مرجئة العصر من السلفيّين فيقولون التوقّف بدعة! والسؤال عن العقيدة بدعة! لم يقل به أحدٌ من السلف!! وفتنة هؤلاء أنهم لا يقنعون بالكتاب والسنة، ولا يهتدون بحجج العقول، بل دواؤهم أقوال الرجال، ولكلّ داء دواء، فنتحفهم هنا بفوائد لا تتعلّق بمجهول الدين مطلقاً فحسب، بل فيمن يصلّي! ومن يطلب الحديث النبوي! بعد أن اختلفت مِلَلُ ونِحَلُ المنتسبين إلى الإسلام، فقد ورد في مجموع الفتاوى (3/280) عن الحافظ ابن تيميّة رحمه الله قوله: "وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يُحبّ أن لا يصلّي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن الإمام أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله ولم يقل إنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله، ولما قدم أبو عمروٍ عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنيّة ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت بالديار المصرية، أمر أصحابَه أن لا يُصلّوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك، ثمّ بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة، المخالفة للرافضة ثمّ صار العلم والسنّة يكثر بها ويظهر.. إلخ كلامه.
    قلت: وما ذكره الحافظ من جواهر العلم المكنون، إلا أنّ قوله: "على سبيل الاستحباب، لا تساعده الرواية المسندة عن أحمد بن حنبل فقد قال أبو بكر المرّوذي رحمه الله: سئل أحمد: أمُرُّ في الطريق فأسمع الإقامة ترى أن أُصلي؟
    فقال: "قد كنتُ أُسهِّلُ، فأما إذا كثرت البدع فلا تُصَلِّ إلا خلف من تعرف"!.
    وهذه رواية كتاب انتقاها ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة (1/59)
    وأعجبُ من ذلك ما كان يقوله شيخ أحمد بن حنبل، وهو شيخ المحدّثين عبد الرحمن بن مهدي، وكان رُكناً من أركان الحديث والفقه. وقد روى أبو بكرٍ الآجرّي في الشريعة (9/79) وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنّة (209/49) بإسنادٍ صحيح عنه أنه قال: "لو أني على سلطان- وفي رواية- لو كان لي الأمر لقُمتُ على الجِسر فكان لا يمرّ بي رجلٌ إلا سألتُه، فإذا قال القرآن مخلوق ضربتُ عُنُقَه!! وألقيتُه في الماء!!"
    بل أعجب من ذلك مذهب شيخه وشيخ شيوخ أحمد بن حنبل، أعني الإمام زائدة بن قدامة الثقفي، أبا الصلت الكوفي، الذي يقول فيه أبو حاتم الرازي: كان ثقةً صاحبَ سنّة، وكذا قال غير واحد من النقّاد وقال العجلي في الثقات (1/367): "كوفي ثقة، لا يحدّث أحداً حتى يسأل عنه! فإن كان صاحبَ سنّة حدّثه، وإلا لم يحدّثه".
    وقال أحمد بن حنبل: المتثبتون في الحديث أربعةٌ.. فعدّه منهم.
    وقال البخاري في جزء رفع اليدين: "كان زائدة لا يُحدّثُ إلا أهل السنّة"، وعلى كل حال الرجل كان جبلاً شامخاً من رجال الصحيحين وقد جاوز القنطرة، وقد روى المزي في تهذيب الكمال (1/422) خط: "قال أحمد بن يونس: رأيت زهير بن معاوية جاء إلى زائدة فكلّمه في رجلٍ يحدّثه فقال: من أهل السنة هو؟
    فقال زهير: متى كان الناس هكذا؟
    فقال زائدة: متى كان الناس يشتمون أبا بكر وعمر‍‍‍‍‍"!!.
    وهذه رواية كتاب مسندة كما هو معروف.
    هذا غاية ما أردتُ بيانه في هذه المسألة وقد ذكرتُ هذه الآثار استطراداً فمقصدنا إنما هو الردّ على من شهد بالكفر على مجهول الدين.
    (استدراك): بعد أن فرغتُ من كتابة هذا التحقيق بلغني أنّ المخالفين يذهبون إلى ما هو شرٌ من مذهبهم في هذه القضيّة! فهم يكفّرون من توقّف عن تكفير المجهول الغائب خلف الجدار ومن لا يقول إنّ الأصل في الناس الكفر!! وهذا دليلٌ على أنّ القوم لا يعرفون ما الكتاب ولا الإيمان، ولا بِمَ يدخل المرء في الإسلام! ولا بِمَ يخرجُ منه، فواللهِ ما كفر من تورّع عن الحكم في المجهول ومن كفّره أقرب للكفر منه إليه، ونحن- والحمد لله- مؤمنون نشهد بتوحيد الحقّ تعالى ملتزمون بالشريعة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم لا نجحد شيئاً منها، وهم معترفون بأنّ حكمهم على هذا المجهول مبني على الظنّ، فنحن مؤمنون بالله، كافرون بالظنّ والخرص في الدين، كافرون بأقاويل العلماء المعارضة لشرع الله، مُكتفونَ مُستغنونَ فَرِحونَ بما أنزله الله على رسوله، مستبشرون بمن وافقنا على هذه المِلّة حتى نوافي إمامَنا وسيّدَنا وحبيبنا على الحوض! وهؤلاء يحتجّون بأقاويل ابن عبد الوهّاب وكأنّها القول الفصل! يقولون الشيخُ يقول: من لم يكفّر الكافر فهو كافر! والشيخُ عندنا مُبَجّلٌ لكنِ الدين كمُلَ بما أنزلَه الله على رسوله! واللهُ يقول: (اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربّكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون)، وأسألُ الله أن يوفّقنا لضبط هذه القاعدة في مبحث مستقل، وفي الختام نذكّر المكفّرين بقول من هو خيرٌ من ابن عبد الوهّاب أعني محمداً رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم كثيراً كثيراً فقد روي عنه أنه قال: "مَن رمى مؤمناً بكفرٍ فهو كقتله" وقال: "أيما رجلٍ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". أسأل الله أن يهدينا وإياهم إلى الحق، فلا نشهد إلا بما علمنا، وما كنّا للغيب حافظين، فاهدنا يا حقّ إلى الحقّ:
    (قلِ الله يهدي إلى الحقّ، أفمن يهدي إلى الحقّ أحقُّ أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يُهدى، فما لكم كيف تحكمون. وما يتّبعُ أكثرهم إلا ظنّا إنّ الظنَّ لا يُغني من الحقّ شيئاً، إنّ الله عليم بما يفعلون).
    avatar
    ابو طلحة


    المساهمات : 7
    تاريخ التسجيل : 26/01/2011

    رسالة ( حكم مستور الدين) للشيخ الفاضل أبي أيوب البرقوي Empty رد: رسالة ( حكم مستور الدين) للشيخ الفاضل أبي أيوب البرقوي

    مُساهمة  ابو طلحة السبت يناير 29, 2011 8:40 am

    جزاكم الله خيرا على هذه الرسالة وهي من أجمل ما قرأت في الرد على أصحاب هذه المقولة - تكفير كل من كان في دار الكفر إلا من علمنا حاله- ولم يات اصحابها باثارة من علم وقد قام أحدهم بالرد على هذه الرسالة برد متهافت صرح هو بنفسه انه ليس باهل للرد على الرسالة وقد صدق الشافعي حين قال: وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الامساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 6:10 pm